ا
الحشد الفني في ال
قرآن الكريم
لقد مر بنا تبيين الناحية الفنية في موضع واحد من الآية غالبا، كأن يختار لفظة على لفظة أو يقدم لفظة على أخرى، أو يزيد في المكان ويحذف من مكان آخر ونحو ذلك. وربما اقتضانا الحديث أن نعرض لأكثر من موضع في الآية الواحدة أو السياق الواحد، مما يدل دلالة واضحة على أن كل كلمة بل كل حرف وضع وضعا فنيا مقصودا في غاية الدقة والجمال.
وليست هذه الآيات أو السياقات التي سنختارها وحدها موضع الحشد، بل إن القرآن كله حشد فني عظيم متكامل، غير أنه لا بد لبيان ذلك أن نختار أمثلة تعيننا على إيضاح ما ندعيه.
ونود قبل أن نشرع في ضرب الأمثلة أن نبين أنه قد يراعى في اختيار التعبير أمور عديدة وجوانب كثيرة، فقد يراعى السياق الذي ورد فيه التعبير. والسورة التي ورد فيها السياق، والسياقات الأخرى التي يرد فيها تعبير مقارب لهذا التعبير، والسور الأخرى التي فيها مواطن تعبيرية متشابهة أو مختلفة. فهو قد يراعي في تعبير السورة الواحدة وبنائها تعبير جميع السور الأخرى من القرآن الكريم وبناءها.
ولنوضح ذلك بأمثلة من سورة واحدة ولتكن
[color:b538=green]سورة الأنعام، ولا نريد أن نبين الجوانب البلاغية والفنية فيما نذكر، بل نقصر الكلام على بيان قسم من العلاقات الفنية التي يراعيها القرآن في السور نفسها أو السور الأخرى.
لقد افتتحت السورة بقوله تعالى:
{الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} .
وقال في خاتمة السورة: {قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء} فناسب بين البدء والختام، فقد ذكر أن الذين كفروا بربهم يعدلون، أما هو فلا يعدل بربه شيئا. فانظر هذه المناسبة والملاءمة في التعبير حتى كأن التعبيرين في البدء والختام آية واحدة.
ثم انظر إلى التناظر بين التعبيرين فإنه قدم في التعبير الأول متعلق (يعدلون) وهو قوله: (بربهم) ، وقدم في التعبير الآخر مفعول (أبغي) وهو قوله: {أغير الله} .
ثم انظر كيف قال في الختام: {وهو رب كل شيء} وقال في البدء: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} أليس الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور رب كل شيء؟
فانظر علو هذا الكلام ورفعته.
ولا تحسبن أن هذه السورة هي السورة الوحيدة التي نوسب بين مفتتحها وخاتمتها. فإن التناسب بين مفتتح السور وخواتيمها أمر معلوم ومشهور. ومن ذلك على سبيل المثال
[color:b538=green]سورة النساء.
فقد بدأت السورة بقوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا * وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا} [النساء: 1-2] .
وختمت بقوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد ... } [النساء: 176] .
فقد بدأت بخلق الإنسان وبث ذريته في الأرض: {اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء} [النساء: 1] وانتهت بهلاكه من دون عقب {إن امرؤ هلك ليس له ولد} [النساء: 176] وهي صورة فنية عظيمة لبدء الحياة ونهايتها.
كما ابتدأت بإيتاء الأموال للنشء الجديد من اليتامى من أنصبتهم من المواريث وهم يستقبلون الحياة، واختتمت بتقسيم تركات من ودع الحياة.
وهذا من أعجب التناسب وأبدعه.