لماذا تموت الكلمات؟
من توفيق الله للعبد أن يعلق قلبه به ويجعل المحرك لأعماله وأقواله طلب رضاه.
قد تبدأ دعوة العبد بهذا الشكل، فيجعل الله له ولدعوته في القلوب قبولا وعلى الألسنة ثناء. والعبد يرصد ذلك لأنه يريد للدعوة أن تنتشر ويريد للهدى الذي ألقاه الله في قلبه أن يفيض على الناس من حوله وتظهر عليهم آثاره، فيتخذ
ثناء الناس وبشرهم به وبدعوته مقياسا لذلك كله.
لكن، إن لم يُحْكم العبد منافذ نيته ويسد مساربها، وبدأ الثناء والبشر في وجوه الناس يروق له، تحول هذا الثناء والقبول إلى مقصد في ذاته، وأصبح يزاحم المقصد الأعظم، رضا الله...إلى أن يصبح ثناء الناس وقبولهم هو المحرك لأعمال العبد وأقواله، والمحدد لمواقفه والمحور لتفكيره...والمشكلة أن هذا التغيير يأتي بالتدريج، ويتلمس العبد خلاله العذر لنفسه أنه لا زال يرصد قبول الناس مقياسا لانتشار الدعوة لا أكثر...وشر الخديعة أن تخدع نفسك.
حتى إذا ما تغيرت النية أبى الله عز وجل أن يزاحم التعلقَ به مزاحمٌ في قلب العبد، فسلبه هذا التعلق ووكل العبد إلى نفسه وإلى من تشهى مدحهم وثناءهم. وحينئذ فلا تعجب من تخبط العبد وانتكاسته وتذبذب مواقفه وتبدل أحواله. فكلماته ما عادت تنطلق حية لتوقر في قلوب السامعين بل قد ماتت على عتبات شفتيه، والحرقة التي كان يتكلم بها قد احترقت، والغضب لله الذي كان يدفعه لأن يقول ما يقول غير طالب مدحا ولا خائف لوما...حل محله تأمل عيون السامعين يستجدي فيها بقاء احترامهم وتوقيرهم...
ولو أن العبد البائس جدد نيته وجمع على ربه قلبه لحفظ الله له المقام الكريم عنده والبركة لدعوته ثم لأعطاه بعد ذلك القبول في الأرض نافلة تأتيه دون أن يحرص عليها.
خطير أن يلهيك كثرة سماع "إني أحبك في الله" عن الله الذي أحبك هؤلاء من أجله!!
من هنا...يهتز القلب كلما تذكر كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي كان إذا مُدح لم يُظهر تواضع الرياء الذي يتصنعه الكثيرون، بل نسي المادحين وتعلق بالله فورا ليعصم قلبه، فيقول:
اللهم أنت أعلم بنفسي مني
وأنا أعلم بنفسي منهم
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
ولا تؤاخذني بما يقولون
واغفر لي ما لا يعلمونك